ولادة العدالة الاجتماعية
العدالة ليست مفهومًا ساكنًا، بل هي حركة دائمة في صيرورة التاريخ الإنساني. إنها الحلم المتكرر الذي يقف عنده الفلاسفة كلما أرهقهم عبث الواقع، والتجربة التي تختبر فيها الشعوب قدرتها على التوازن بين حاجات الفرد وطموحات الجماعة. في هذا السياق، تتجلى تجربة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام كنموذج خالد، يفتح أمام الفكر الإنساني أبوابًا جديدة لتأمل جوهر العدالة، لا بوصفها قيمة سياسية فقط، بل كشرط أخلاقي ووجودي يتصل بجوهر الإنسان وكرامته.
حين نقف عند سيرة الإمام علي، لا نقف أمام شخصية تاريخية فحسب، بل أمام رؤية متكاملة نسجتها الحكمة، الرحمة، والشجاعة. العدالة التي أرسى قواعدها الإمام ليست نصوصًا تُقرأ، بل فلسفة تُمارَس، تُعيد تشكيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين القوي والضعيف، وبين الإنسان والكون. لقد فهم الإمام علي أن العدالة ليست حالة مؤقتة أو قرارًا إداريًا، بل هي روح تسري في أوصال المجتمع، تحفظ له توازنه، وتجعل منه كيانًا قادرًا على مواجهة كل أشكال الانحراف.
ما يميز تجربة الإمام علي في العدالة هو استناده إلى مبدأ إنساني شامل، تجسد في عبارته الخالدة: “الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”. هذه العبارة ليست مجرد حكمة عابرة، بل هي إعلان ثوري يُعيد تعريف العلاقات البشرية على أساس المساواة والاحترام المتبادل. إنها تطرح سؤالًا فلسفيًا عميقًا: كيف يمكن للعدالة أن تتجسد حينما يُنظر إلى الإنسان لا بوصفه مجرد جزء من جماعة، بل كقيمة قائمة بذاتها، تستحق الكرامة بصرف النظر عن أي انتماء أو موقع؟
لكن العدالة لا تتحقق من خلال الخطاب فقط؛ تحتاج إلى حكمة تُحيط بمساراتها وتُوجه أفعالها. الإمام علي، بحكمته التي استقاها من فهم عميق للإنسان والوجود، كان يدرك أن تحقيق العدالة يتطلب رؤية تتجاوز اللحظة الراهنة إلى أفق أوسع. العدالة في فلسفته ليست مجرد تحقيق للمساواة الظاهرة، بل هي علاج للأمراض الخفية التي تنخر في جذور المجتمعات. لقد قال يومًا: “ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني”. في هذا القول تتجلى رؤيته العميقة للعدالة الاقتصادية، التي لا تقف عند حد الإنصاف الظاهري، بل تمتد إلى كشف العلاقات غير العادلة التي تُثري فئة على حساب أخرى.
من هذه الحكمة ينبع وجه آخر من تجربة الإمام علي، وهو الرحمة. العدالة التي تخلو من الرحمة تتحول إلى قسوة مقننة، تفقد قدرتها على ملامسة جوهر الإنسان. ولعل أصدق صور الرحمة تلك التي جسدها الإمام علي في تعامله مع الفقراء والمحتاجين. كان يحمل أكياس الطعام في الليالي المظلمة ويوزعها بنفسه على من لا يملك قوت يومه. هذه الرحمة ليست ضعفًا، بل هي القوة التي تجعل من الحاكم خادمًا لرعيته، يرى في حاجاتهم مسؤولية شخصية لا يمكن أن يتنصل منها.
لكن ما يجعل العدالة في تجربة الإمام علي فريدة حقًا هو شجاعته الأخلاقية في الدفاع عنها. الشجاعة ليست مجرد مواجهة الأعداء في ميادين القتال، بل هي القدرة على الثبات أمام المبادئ في وجه أي انحراف. لقد كان الإمام علي يدرك أن العدالة قد تكون مكلفة، وأن الوقوف مع الحق قد يُفقد الحاكم دعم بعض المقربين، لكنه لم يكن يومًا من أولئك الذين يساومون على المبادئ. كان يقول بكل وضوح: “لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه”. هذه الكلمات ليست مجرد دعوة إلى الصمود، بل هي تأكيد على أن العدالة الحقة غالبًا ما تكون طريقًا وعِرًا، لكنه الطريق الوحيد الذي يضمن للمجتمعات بقاءها واستمرارها.
العدالة، كما فهمها الإمام علي، ليست حالة جامدة، بل حركة دائمة نحو تحقيق التوازن بين المادة والروح، بين الفرد والجماعة، بين الحاكم والمحكوم. إنها تلك اللحظة التي يقف فيها الإنسان أمام مرآة نفسه، ويرى في الآخر امتدادًا له، لا عدوًا أو خصمًا. هذه الرؤية هي ما يجعل تجربة الإمام علي تجربة خالدة، تستحق أن تُقرأ لا كجزء من التاريخ، بل كدعوة دائمة إلى استعادة إنسانيتنا في كل زمان ومكان.
اللواء الدكتور
سعد معن الموسوي